من جديد يحصل ستيف جوبز على اجازة مرضية من عمله المزدحم في الرئاسة التنفيذية لشركة آبل للمرة الثانية وذلك للتركيز على صحته حيث يعاني منذ سنين من مرض السرطان في البنكرياس. جاء ذلك في رسالة الكترونية وجهها الى موظفي شركته يخبرهم فيها بهذه الاجازة الاضطرارية وإنابة تيم كوك في مهامه مع احتفاظه بالبت في القرارات الاستراتيجة الكبرى المتعلقة بآبل.
كان الغياب الأول لستيف جوبز والذي أحيط كالعادة بالتكتم وبالتالي التسريبات والاشاعات في النصف الأول من عام 2009 ليعود بعدها الرجل الى المنصة وليشهد أوج نشاطه وظهوره المتكرر في عام 2010 والذي كان عاما مزدحما وقويا لآبل وحافلا بالكثير من المنتجات والانجازات والنجاحات الى درجة ربما انهكته وأعادت أوجاعه القديمة.
في المؤسسات الاحترافية المبنية على أسس ادارية عميقة ومنضبطة لا يشكل غياب أي رجل فيها حتى لو كان رئيسها ومؤسسها، لا يشكل هذا الغياب الذي قد يحدث فيها بسبب الموت أو الاستقالة أو غيرها أي تأثير على مجريات عملها وخطوط انتاجها وسياستها، وهذا معلوم وواضح خصوصا بالنسبة للمؤسسات الغربية من شركات ومنظمات وأجهزة ودول كاملة لا تعتمد على مجهود فرد واحد أو رأيه أو عمله.
وهكذا رأينا في المجال التقني في شركات عديدة، حيث غادر بيل غيتس مايكروسوفت طوعا واستمرت الشركة رغم رمزية هذا الرجل ووضعه للبنة الأولى لتلك الشركة البرمجية العريقة، أيضا شركة HP عملاق صناعة عتاد الحواسيب، توفي مؤسساها واستمر عملها بلا أي تأخر واضطراب والأمثلة تطول.
هل شركة آبل استثناء عن هذه القاعدة خصوصا مع حجمها الضخم وجهازها الاداري الكبير وانتشارها في كافة أنحاء العالم؟
تناسب نادر بين المؤسسة والشخص
الاجابة هي نعم ولا بنفس الوقت ولهذا شرح وتبيين! فمرض ستيف جوبز الخطير والذي لا ينجو منه الا القلة ويتميز بعودته حتى بعد ادراك الشفاء منه، يطرح الكثير من الأسئلة حول خلافته والشخص المناسب لقيادة تلك الشركة الكبيرة اذ ان احتمال الوفاة السريعة قائم او حتى العجز التام عن العمل بسبب شدة المرض وبالتالي لن تغلق الشركة أبوابها لان ستيف جوبز المؤسس والمنقذ قد رحل!
اذن آبل ليست استثناء من بقية الشركات في هذا الجانب لكن ستيف أيضا يمثل علامة فارقة بين الرؤساء التنفيذيين في عالم الشركات جعلت من مجرد خبر غيابه يهبط بأسهم آبل في التعاملات الخارجية، فهو كشخص وكرئيس تنفيذي يمثل استثناء في الرمزية والنجاح التي جعلت اسمه مقابل لشزكته وللتفاحة الشهيرة، حيث ينبع ذلك الاستثناء من عاملين مهمين:
1. الأول هو الذكرى التي لا تغيب عن بال الجميع والتخوف الذي يساور من هم في داخل وخارج مجتمع آبل العريض من أن أي غياب مجدد سيعيد حادثة الغياب الأول نتيجة الاقالة في منتصف الثمانينات والتي أودت بآبل الى الحضيض وحولتها الى شركة فاشلة كادت أن تعلن افلاسها لولا عودة ستيف نهاية التسعينات والبدء من جديد في بناء الشركة حتى أوصلها في غضون عشر سنوات الى أكبر وأنجح شركة في العالم.
لذا الخوف من تكرر هذه المأساة بغياب جديد لستيف بؤرق كثيرا المساهمين والمستثمرين وكل مجتمع آبل الواسع.
2. العامل الآخر هو اصرار المستثمرين والمساهمين ومجلس الادارة على التمسك بستيف لادراكهم بأن اسمه وظهوره لوحده هو علامة تسويقية ناجحة ترفع قيمة وأسهم الشركة وهذا استثناء مثير لم نلاحظه في الكثير من الشركات العالمية والكبرى ولم نلحظه حتى بأشخاص قد يكونون أذكى وأكثر عملية من ستيف جوبز، فبيل غتيس على أعماله العظيمة سابقا ولاحقا وعلى تأسيسه لأكبر شركة برمجيات في العالم لم ينل هذه الرمزية وكذا مؤسسي جوجل سيرجي برين ولاري بيج لم ينالا هذا الرمزية وقل الشيء نفسه عن لاري اليسون مؤسس اوراكل ومايكل ديل وغيرهم العديد.
من هنا اتصف ستيف جوبز بعدة صفات أهلته لنيل هذا الاستثناء وهذه الرمزية وهي صفات قد يجادل البعض في سلبيتها او ايجابيتها لكن لا يختلفون في انها اوصلته لهذه الشهرة وهذا النجاح وجعلت من عملية فقدانه مسببا لارباك وهزة قد تمنى بها آبل ان لم يخلفه شخص مؤهل وقدير يستطيع قيادة الدفة وتحقيق نجاحات مماثلة لآبل، وهذه الصفات على سبيل المثال لا الحصر:
صفات النجاح
1. الكاريزما التي يظهر بها ستيف والتي نراها جليا في اهتمام وسائل الاعلام بكل الاحداث والمؤتمرات واللقاءات الخاصة به حتى ان العام الماضي سجلت فيه آبل حضورا أكبر من أي شركة أخرى في وسائل الاعلام.
2. العناد: وبغض النظر ان كان سلبيا او ايجابيا فهو قد طبع ستيف بطابع خاص جعلته يخطئ ويصيب في بعض القرارات التي كان يصر عليها لكن اكسبته صفة مميزة بلا شك.
3. النجاح: فقصة انتشال آبل وبناءها من جديد من شركة مفلسة الى ثاني أكبر شركة تملك قيمة سوقية في العالم كله هي قصة اسطورية بلا ريب ودرس نجاح كبير لا يحققه الا القلة في مدد زمنية طويلة.
4. الابداع: فالمنتجات التي ظهرت في عهد ستيف الثاني كانت خارجة عن المألوف، لا تقليدية ولم توجد سابقا كما شاهدنا في الآي فون والآي بود والآي باد.
اذن كان هنالك ربط واضح بين منتجات آبل هذه الابداعية وبين شخص ستيف جوبز وهذا مالم نره في اغلب الشركات التقنية وسواء كان هذا الربط مقصود او غير مقصود فانه قد تسبب بجعل ستيف ايقونة لا يمكن فصلها عن آبل وعن الآي فون خصوصا وربما هذا يودي بكارثة مستقبلية عليها عند الغياب التام لستيف عنها.
غياب في الوقت غير المناسب
هذا الوقت الذي أعلن فيه ستيف جوبز عن غيابه تؤكد أن الأمر خطير وأن صحته معتلة بلا شك والا فان مغادرة الساحة في هذا الوقت بالذات ستعني اهتزازا قد يحدث لآبل في الأيام القادمة خصوصا مع اشتداد المنافسة في سوق الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وتكشير عشرات الشركات عن أنيابها في مواجهة آبل، وهذا العام تنتظرنا أحداث مهمة قريبة مثل الاعلان عن الآيباد في جيله الثاني بعد شهرين او أقل أو أكثر وكذا الاعلان عن الآي فون 5 في الصيف القادم وننتظر أيضا أمورا كثيرة متعلقة بنظام iOS ونظام OS X وربما تكشف لنا آبل عن منتجات جديدة غير متوقعة.
ونحن نعلم أن غياب ستيف عن منصة تلك الأحداث سيفقدها نكهة خاصة وسيؤدي حتما الى تراجع الاهتمام الاعلامي بتغطيتها وربما تراجع اهتمام الزبائن بشراء بعض المنتجات، هذا موجد بالفعل لدى الكثير من ال Apple Fans حول العالم، وهذا الغياب سيشكل ايضا خيبة آبل للمساهمين والمستثمرين ومجلس الادارة والذين تمتلأ جيوبهم وحساباتهم مع كل ظهور لستيف على المسرح وتنقص مع كل غياب.
ردود الفعل
هذا الاعلان عن الغياب أثر فورا على اسهم آبل كما ذكرنا اذ تراجعت الاسهم في التعاملات الخارجية بسبعة دولارات وننتظر بعد أيام لنرى أثرها في السوق الأمريكية، لكن دعونا نأخذ رأي الساحة التقنية في هذا الغياب.
المحلل التقني “ام جي سيغلير” اعتبر في التيك كرنش ان رئاسة ستيف جوبز لآبل ليست كرئاسة أي شركة وهو ليس كأي رئيس تنفيذي اذ ان -وقد وافق رأينا في ذلك- غيابه سيؤدي الى توقعات سيئة لمستقبل آبل ونتائجها المالية ويستشهد بغيابه المرضي الأول في عام 2009 الذي خلق جوا مظلما حول آبل واصاب اسهمها بشدة -كما بدأ يحدث الآن- والتي استطاعات تجاوزه بعدد من المنتجات القوية التي طرحت ذلك العام ثم عودة ستيف جوبز التي أعادت كل شيء الى نصابه.
واعتبر سيغلير أن الأمر نفسه يتكرر هذا العام، عام 2011 اذ ان ستيف يغيب مرة اخرى في بدايته وقبل طرح منتجات أقوى وأغنى من منتجات 2009 كالآي باد وكآي فون فيرايزون والآي فون 5 أيضا مما قد يعوض من تأثير غياب جوبز السلبي، ويرى سيغلير أيضا عامل آخر يتثل في “تيم كوك” مسؤول العمليات في آبل والذي تتم انابته للمرة الثانية من قبل ستيف مما يعزز احتمالية أن يكون هو الخليفة المنتظر حيث نجح في تطبيق مبادئ ونظريات وأعمال ستيف في آبل ومثل ساعده الأيمن في الكثير من الأمور المهمة داخل الشركة.
أيضا أشار “سيغلير” الى نقطة بالغة الأهمية تتمثل في توقيت الاعلان والذي يأتي في يوم عطلة امريكية وطنية تغلق فيها الأسواق (لذا رأينا الانخفاض خارجي وليس داخلي) وأيضا سيتم الاعلان غدا عن نتائج الربع المالي الأول لسنة آبل المالية والذي يضم مبيعات أعياد الميلاد والتي بلا شك ستكون ساحقة النجاح مما سيقلل جدا من تأثير غياب جوبز السلبي عن آبل كما هو متوقع.
ادارة من خلف الستار
سيستمر ستيف في اتخاذ القرارت الاستراتجية الكبرى في الشركة رغم غيابه لكن حتى ان لم يعد فان هنالك خطة طريق لسياسة ومنتجات آبل طويلة الأمد تم وضعها والعمل بها بطريقة مؤسساتية بحتة لن يؤثر فيها غياب أبدي لستيف جوبز، اذ ان سلسلة المنتجات المستمرة والجديدة ربما لخمس أعوام أو أقل أو أكثر موجودة حتما وهذا يشمل الآي فون والآي باد والآي بود تتش والماك وما قد نره من ابداعات جديدة، لكن كما قلنا سابقا: هذا الغياب سيؤثر ولا يؤثر بنفس الوقت، سيؤثر باهتزاز قصير او ربما ارتباك نتيجة فقدان شخص ستيف مثل ايقونة مهمة للشركة وزبائنها ومستثمريها، ولن يؤثر بخطة موضوعة مسبقا لشركة كبرى لن تغلق ابوابها نتيجة رحيل شخص وبخليفة لستيف يبدو انه قد تم اعداده جيدا لهذه الخلافة، لكن لا ندري هل يستطيع ابداع منتجات جديدة كما فعل ستيف جوبز مع الآي فون والآي بود والآي باد بعد ان يتوقف عقل ذلك الأخير عن العمل نهائيا! لا ندري والزمن كفيل بالاجابة.